ملف للنقاش « الخطاب الديني هل هو شأن عام أم متخصص؟ »
نواجه كل يوم في شأننا العام والفكري وفي أسلوب حياتنا كما عبادتنا و فهمنا للدين والنصوص الدينية مقولة تبدو غير قابلة للرد أو النقاش عند أصحابها، وهي أنه يحظر التحدث في شأن ديني إلا للعلماء المختصين بالشريعة الإسلامية، ومن ثم فلا دور لنا نحن غير المتخصصين في الشأن الديني سوى أن نتلقى ونتبع ما يقوله علماء أو متخصصون مكرسون لفهم الدين و إفهامه، وبما أن شأن الدين ودوره اتسع لدى كثير من الأفراد والجماعات ليشمل الدولة والحكم والسياسة والاقتصاد والعلم وأسلوب الحياة والعلاقات الاجتماعية والإدارة، فقد أصبحت هذه المسائل أيضا من اختصاص علماء الشريعة والدين الذين لم يدرسوا شيئا من ذلك في حياتهم! وتدعي فئة من الناس حقها في توضيح الدين للناس، و حقها أيضا في مصادرة فهم الدين وعرضه وتفهيمه بحجة العلم والتخصص، وهي حجة صحيحة بالطبع في الحكم والوصف المطلق، ولكنها في التطبيق تواجه إشكالية وتساؤلات كثيرة، فمن هو العالم الذي يحق له التحدث في شأن الدين وعرضه ونقاشه؟ ومن أين جاء لأحد من الناس الشعور بالوصاية على إيمان الناس وفقههم وفهمهم وعبادتهم وعلاقتهم بالله وبالدين؟
وللأمانة فإنها وصاية على حياتنا وشؤوننا اليومية والعامة يدعيها كثير من المتخصصين الآخرين في الطب والاقتصاد والزراعة والسياسة، وكلهم يدعون أننا (البشر غير المتخصصين) لا نملك من أمرنا شيئا، وليس علينا فعل بل والتفكير أيضا سوى ما يقرره لنا حملة شهادات من جامعات، جامعات ما في بلاد الله الواسعة، وبعضها بالطبع جامعات مهمة وعريقة، والكثير من هؤلاء الأوصياء يملكون علما وكفاءة، ولكن مع احترامنا وتقديرنا لعلمهم وأمانتهم، فإنها حياتنا نحن وعبادتنا نحن، فنحن الذين نمرض ونشعر بالألم وندفع ثمن وتكاليف العلاج وليس الأطباء الأجلاء، ونحن الذين ندفع الضرائب ونجني مكاسب وكوارث الأنظمة والسياسات والقرارات الاقتصادية التي يضعها أساتذة وخبراء، وهم بالطبع هؤلاء الأساتذة الأجلاء والحاصلون على جوائز مهمة في الاقتصاد من أودى بالعالم إلى أزمته الاقتصادية الخانقة، ونحن أيضا نقابل الله عز وجل يوم القيامة فرادى ونجادل وحدنا عن أنفسنا، ولن يفيدنا في شيء فتاوى ومقولات العلماء الأجلاء وغير الأجلاء، و نتحمل المسؤولية وحدنا لا يشاركنا في ذلك أحد، والمسألة الدينية برمتها هي منبثقة عن إيمان وتصديق لا تملك قوة في الأرض تغييرها أو فرضها، إنها مسألة فردية بحتة، حتى مع الحاجة إلى العلماء والمتخصصين في الشريعة كما في سائر العلوم والمجالات. إن المسألة أكثر تعقيدا وإلحاحا في الشأن الديني، لأنه شأن يخص كل متدين ومؤمن، وكل من يعتقد أنه ملزم من الله باعتقادات وأفعال و/أو أنه سيحاسب عليها (وحده فردا) بعد الموت، فهو (كل إنسان أو كل متدين على الأقل) شريك في الشأن الديني لأنه سيختار وحده الموقف والسلوك والفعل الذي يعتقد أنه الحالة الصحيحة التي هي « من عند الله » و/أو أنه ينجيه يوم القيامة، وبالطبع فإنها حالة تنسحب على كل شؤوننا في الطب والزراعة والاقتصاد والبيئة والسياسة، لأنها في حقيقتها وجوهرها شؤون تعني الناس جميعهم وهم شركاء أساسيون فيها ويتحملون نتائجها ويدفعون تكاليفها، ولا يمنح التخصص والعلم في الشأن حقا للناس باحتكاره، ولا يعني أيضا تفويضا لهم ليقرروا (نهائيا) فالناس هم الذين يمرضون ويتألمون ويدفعون للأطباء، والصحة والمرض شأنهم وحدهم، ولا يحق للطبيب أن يقرر عنهم وحده مهما كان مستوى علمه وتخصصه لأنهم هم الذين يتألمون وليس الطبيب، وهم الذين يشفون أو لا يشفون وليس الطبيب أيضا، وهو (الطبيب) يتلقى أجره من المريض، .. المسألة أعقد من ذلك بالطبع، ولكن الفكرة الأساسية هي أن أحدا لا يمنحه تخصصه أو شهادته ليحتكر شأنا تعلمه.
العالم ببساطة هو الذي يراه الناس كذلك، ويمنحونه الثقة والاتباع على مسؤوليتهم هم أنفسهم، مهما كان حظه في الحقيقة من العلم، فثقة الناس ورأيهم في شخص ما (اتباعا أو اختلافا أو جدلا و حوارا) هي التي تمنحه صفة العالم، و بغير هذا المعيار فلا يمكن لأي شخص ادعاء نسبة العلم إلى نفسه أو نفيه عن غيره. يمكن أن تطبق معايير الشهادات العلمية التي تمنحها الجامعات (والكثير من حملة الشهادات العلمية العليا في الشريعة الإسلامية وقادة كليات وجامعات إسلامية تخرجوا من جامعات أمريكية وأوروبية) في التدريس، والمؤسسات الحكومية والرسمية، والشركات (والبنوك الإسلامية لموظفيها المستشارين)، والإفتاء الرسمي، ولكن ثقة الناس وحدها هي التي تمنح شخصا صفة العلم، و حقه بالاتباع والاحترام،.. هكذا نشأت المذاهب الفقهية على سبيل المثال، فلم يكن أبو حنيفة والشافعي ومالك وأحمد هم العلماء فقط والأئمة المجتهدون، ولكن الأمة منحت هؤلاء الأربعة ثقتها، والتزمت لفترة طويلة في تاريخها باتّباعهم. وفي النهاية فإن القرآن الكريم موجه لكل إنسان، وإذا احتاج مؤمن به لمساعدة من أحد فهذا شأنه، وهو يقرر وحده ما المساعدة التي يريدها وما يحتاج إليه، وهو أيضا يتحمل وحده نتيجة إيمانه وفعله، ولن يفيده بشيء إن كان مخطئا أنه اتبع عالما، ولن يجادل الله بشهادة أو كفاءة وخبرة من اتبعه، وإن جادله بذلك فلن يفيده أيضا، والأصل في القرآن أنه موجه مباشرة إلى كل إنسان بذاته بلا وساطة « وما على الرسول إلا البلاغ » وأنه مهيأ لفهم القرآن وتطبيقه « و لقد يسرنا القرآن للذكر فهل من مدكر » ولا يملك الناس جميع الناس سوى أن يتبعوا فكرتهم وإيمانهم، سواء كانوا مخطئين أو مصيبين، ولا يملكون أيضا سوى التعبير عنها وعرضها على الناس، ولا تستطيع قوة في الأرض أن تجبرهم على اعتقاد فكرة، ولا تستطيع أيضا أن تمنعهم من الإيمان بفكرة، « أفأنت تكره الناس حتى يكونوا مؤمنين » و »لا إكراه في الدين ». هناك مسألة أخرى متعلقة بفهم الدين ودراسته، فليست دراسة الدين تهدف فقط لأغراض إعداد المدرسين والأئمة والقضاة الشرعيين والمفتين، ولكن الدين يدرس باعتباره علما ومعرفة أو موضوعا للدراسة والبحث والتعلم (دراسات دينية)، ويدرس أيضا وفق مداخل وعلاقات علمية ومعرفية في الفلسفة والاجتماع والسياسة والثقافة والفنون والاقتصاد والقانون والتاريخ الاجتماعي وتاريخ الأفكار والتاريخ بعامة، وهي مجالات أكاديمية بحتة، لا علاقة لها بالإيمان والتدين، ويشغل بها المسلم وغير المسلم والمؤمن وغير المؤمن والمتدين وغير المتدين، وبذلك فإن الدارسين للدين هم شركاء في الجدل والشأن الديني القائم بغض النظر عن إيمانهم أو تدينهم، ولا يمكن إلزامهم بما يلتزم به المؤمنون والمتدينون من قواعد وتقاليد في التعامل مع الدين ورجاله وعلمائه، ولا يحتاجون إلى « إجازة » دينية أو استئذان أحد في بحوثهم وآرائهم، وهم في شأنهم هذا لا يخضعون إلا لاعتبارات القوانين السائدة وقواعد البحث والمعرفة المتبعة.
وبتحول الدين إلى مكون أساسي في الصراعات القائمة اليوم و في الأفكار وأساليب الحياة تحول أيضا إلى شأن عام يشغل جميع الناس في العالم كله باختلاف أديانهم واعتقاداتهم ومستوياتهم وطبقاتهم وأعمالهم، ولم يعد واقعيا أن يطالب الناس بفهم الدين والتعامل معه وفق قواعد وأساليب أتباعه والمؤمنين به. لقد تحول الدين بفعل نشاط المتدينين ورجال الدين، أو حدث ذلك بفعل تطورات وتفاعلات اجتماعية وسياسية واقتصادية وثقافية، تحول إلى شأن يفوق قدرة رجال الدين وعلمائه على الاستيعاب والإحاطة وادعاء الانفراد بفهمه ومعرفته، وصار شأنا متصلا بحياة الناس ومواقفهم وصراعاتهم، وجزءا من معظم المعارف والتخصصات العلمية، وأصبح رجال الدين وعلماؤه شركاء مع غيرهم، وربما أقل من الكثير من الشركاء الآخرين من العلماء (الدنيويين) والساسة والنشطاء الاجتماعيين، ..والمستثمرين والاقتصاديين أيضا. يمكن أن تطبق معايير الشهادات العلمية في التدريس والمؤسسات والشركات (والبنوك الإسلامية لموظفيها المستشارين) ومن الملفت بل والمحير أن القائمين على البنوك (الإسلامية) وإدارتها و تنظيمها ليسوا متخصصين في الشريعة الإسلامية بل وفي كثير من الأحيان ليسوا إسلاميين أو متدينين، ولكنهم قدموا إلى المجال من خبراتهم ودراساتهم في السوق والجامعات بعيدا عن كليات الشريعة والدراسات الإسلامية.
م / بلا حدود